عن ابي سعيد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنهما ان اناسا من الانصار سألوا ر سول الله صلى الله عليه و سلم : فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده فقال لهم حين انفق كل شيء بيده : "ما يكن عندي من خير فلن ادخره عنكم و من يستعفف يعفه الله و من يستغن يغنه الله و من يتصبر يصبره الله و ما أعطي أحد عطاء خيرا و أوسع من الصبر" متفق عليه
شرح الحديث :
سأل مجموعة من الانصار رسول الله صلى الله عليه و سلم
(فأعطاهم) أي عقب سؤالهم و لم يتوان لما جبل عليه من مكارم الاخلاق و السماحة
(ثم سألوه فأعطاهم) فتكرر منهم السؤال مرتين و منه العطاء عقب كل مرة
(حتى نفد ما عنده) أي ذهب بالانفاق جميع ما عنده
(فقال) عقب نفاده تنفيرا لهم من الاستكثار مما زاد على الحاجة من الدنيا و تحريضا على القناعة و حثا على الاستعفاف و اللام في
(لهم) هي لام المبالغة
(حين انفق) وهو مختص باخراج الشيء في الخير
(كل شيء بيده) معد للانفاق كائن بيده
(ما يكن عندي من خير فلن ادخره عنكم) أي ما يكن عندي لا اجعله ذخيرة لغيركم معرضا عنكم او فلا أخبؤه و أمنعكم إياه
(عنكم و من يستعفف) أي من طلب العفه عن سؤال الناس و الاستشراف الى ما في ايديهم
( يعفه الله) أي يرزقه العفة فيصير عفيفا قنوعا و قيل الاستعفاف الصبر و النزاهة عن الشيء
(و من يستغن) أي يظهر الغناء بالتعفف عما في ايدي الناس
(يغنه الله) أي يجعله غناء الا غناؤها
(ومن يتصبر) أي يتكلف الصبر على ضيق العيش و غيره من مكاره الحياة بأن يتجرع مرارة ذلك و لا يشكو لغير مولاه
(يصبره الله) أي يعطه من حقائق الصبر الموصلة للرضا ما يهون عليه كل مشق و مكدر و لشرف مقام الصير و علوه لانه جامع لمكارم الاخلاق و معالي الصفات فلا ينال شيئا منها الا من تحلى به
(الله و ما أعطي أحد عطاء خيرا) أي ما أعطي أحد من خلق و مقام خيرا
(و أوسع من الصبر) معنى كونه أوسع أي به تتسع المعارف و المشاهد و المقاصد فان قلت : مقام الرضا أفضل منه قلت : هو غايته لانه لا يعتد به الا معه فليس اجنبيا عنه اذ الصبر من غير رضا مقام ناقص جدا
عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الطاعون فأخبرها أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع في الطاعون فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم انه لا يصيبه الا ما كتب الله له الا كان له أجر شهيد رواه البخاري
شرح الحديث
سألت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم عن شأن الطاعون و حقيقته كما يؤخذ من الأحاديث بثر مؤلم يخرج غالبا من الاباط مع لهب و اسوداد حواليه و خفقان القلب و القئ
(فأخبرها أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء) في نسخة البخاري "على من شاء" أي من كافر أو عاص بارتكاب كبيرة أو اصرار على صغيرة
(فجعله الله تعالى رحمة للمؤمنين) قال الشيخ زكريا في حاشيته على البخاري : أي غير مرتكبي الكبائر
(فليس من عبد يقع في الطاعون) أي به او في بلده او هو من قبيل التجريد نحو "لكم في رسول الله اسوة حسنة"
و في رواية بحذف في (فيمكث في بلده) التي وقع بها الطاعون
(صابرا) على ما نزل به او ببلده
(محتسبا) أي راجيا للاجر و الثواب من الله
(يعلم انه لا يصيبه الا ما كتب الله له الا كان له أجر شهيد) و ان مات بغير الطاعون فانه حيث كان موصوفا بما اشار اليه الحديث من قصده ثواب الله عارفا ان ما وقع به فبتقدير الله و ان صرف عنه ذلك و هو غير متضجر لو وقع به معتمدا على ربه في حال الصحة و المرض كان له اجر ااشهيد و ان مات بغير الطاعون
و عن أنس رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " ان الله عز و جل قال : اذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة. يريد عينيه - رواه البخاري
شرح الحديث (ان الله عز و جل) أي عز شأنه و جل برهانه و اتى بهما و ان كانا في المعنى متقاربين لان مقام الثناء مقام اطناب و هذا حديث قدسي لانه صلى الله عليه و سلم يروي عن ربه سبحانه انه ( قال) :أي بكلامه النفسي الذي هو صفة ذاته
(اذا ابتليت عبدي) : أي عامله معاملة المبتلى أي المختبر
(بحبيبتيه فصبر) على فقدهما محتسبا لاجرهما مدخرا له عند الله تعالى
(عوضته منهما) أي بدلهما فهو كقوله تعالى :
أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ
(الجنة) أي مع الفائزين او منازل مخصوصة منهما
(يريد) أي النبي بحبيبتيه
(عينيه) محضهما بذلك لانهما احب اعضاء الانسان اليه
عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "من يرد الله به خيرا يصب منه - رواه البخاري و أحمد
شرح الحديث
(من يرد الله به خيرا) أي حالا و مالا
(يصب منه) ضبطوا (يصب) بفتح الصاد و كسرها اما في بدنه او ماله او محبوبه و في الحديث "المؤمن لا يخلو من علة او قلة او ذلة" و انما كان خيرا حالا لما فيه من اللجوء الى المولى و مالا لما فيه من تكفير السيئات او كتب الحسنات او هما جميعا
عن معاذ ابن أنس هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم قال : " من كظم غيظا و هو قادر على ان ينفذه دعاه الله سبحانه و تعالى على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء - رواه ابو داود و الترمذي و ابن ماجه
شرح الحديث (من كظم غيظا) تجرعه و احتمل سببه و صبر عليه و
(الغيظ) تغير الانسان عند احتداده و ظاهر عموم تنكير
(غيظا) حصول الثواب على كظم الغيظ مع القدرة على انفاذه و ان قل
(و هو قادر على ان ينفذه) أي يقضي و يعمل بما يدعوه اليه من ضرب المغتاظ منه او قتله او نحوه لسطوته على المغتاظ منه بملك او نحوه و هو قيد في حصول ثواب كظم الغيظ المذكور
(دعاه الله سبحانه) تنزيها له عما لا يليق بشأنه
(و تعالى) عن ذلك فهو كالاطناب
(على رءوس الخلائق) تنويها بشأنه و اعلاما بعلو مكانه
(يوم القيامة) ظرف لدعاه
(حتى يخيره) بضم الياء الاولى و تشديد الثانية
(من الحور) أي شديدات سواد العيون و بياضها
(العين) ضخام العيون
طريفه :
روي ان الحسين ابن على رضي الله عنهما كان له عبد يقوم بخدمته و يقرب اليه طهره فقرب اليه طهره ذات يوم في كوز فلما فرغ الحسين من طهوره رفع العبد الكوز من بين يديه فأصاب فم الكوز رباعية الحسين فكسرها فنظر اليه الحسين
فقال العبد : "و الكاظمين الغيظ"
قال : قد كظمت غيظي
فقال :" و العافين عن الناس
قال : قد عفوت عنك
قال : " و الله يحب المحسنين"
قال : اذهب فأنت خر لوجه الله تعالى
قال و من جواز عتقي قال : السيف و الدرقة فاني لا اعلم في البيت غيرهما
وعن انس رضى الله عنه قال : مر النبي صلى الله علية وسلم على امرأة تبكي عند قبر فقال لها اتقي الله واصبري واصبري
فقالت: إليك عني فانك لم تصب بمصيبتي , ولم تعرفه, فقيل لها: انه النبي صلى الله عليه وسلم
فأتت باب النبي صلى الله علية وسلم فلم تجد عنده بوابين, فقالت: لم أعرفك, فقال : إنما الصبر عند الصدمة الأولى . متفق عليه
قبر فقال لها اتقي الله واصبري : قال القرطبي: الظاهر أنها كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره ولهذا أمرها بالتقوى
فقالت إليك عني: بمعنى تنح و ابعد
ولم تعرفه: أي خاطبته بذلك غير عارفة أنه النبي صلى الله علية وسلم
فأتت: للاعتذار
باب النبي صلى الله علية وسلم فلم تجد عنده بوابين: استشعرت خوفاَ وهيبةَ في نفسها وتصورت أنه مثل الملوك له حاجب أو بواب يمنع الناس من الوصول إليه, فوجدت الأمر بخلاف ما تصورت
إنما الصبر: أي الذي يحمد عليه صاحبه كل الحمد ما كان
عند الصدمة الأولى: أو عند مفاجأة المصيبة, بخلاف ما بعدها فإنه على عود الأيام يسلو
قال الطيبي : صدر الجواب منه صلى الله علية وسلم بهذا عن قولها لم أعرفك على أسلوب الحكيم, كأنه قال لها : دعي الاعتذار فإني لا اغضب لغير الله, وانظري إلى نفسك في تفويتك الثواب الجزيل بعدم لصبر عند مفاجأة المصيبة
وعن انس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أراد الله بعبده خيراَ عجًل له العقوبة في الدنيا, وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : عن عظم الجزاء مع عظم البلاء, وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم, فمن رضى فله الرضا, ومن سخط فله السخط . رواه الترمذي وقال: حديث حسن
وعن انس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أراد الله بعبده: المراد عقابه
خيراَ عجًل له: في جزاء سيئاته
العقوبة في الدنيا : ببلاء في نفسه أو بموت صديقه أو بفقد ماله ونحوه, فيكون ذلك إذا سلم من التبرم من الأقدار كفارة لجناياته فيوافي القيامة وقد خلص من تبعة الذنب ودركه, فإن لم يكن من أرباب المخالفات ونزل به بلاء كان زيادة في درجاته, وعليه يحمل حديث (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)
الشر: من العقاب والعذاب
أمسك عنه: الأذى
بذنبه: يعني أن تأخير ما ذكر عنه وبقاءه في تبعات ذنبه من أسباب ذنبه, ففيه استدراجه من حيث لا يشعر
حتى يوافي به: أي بذنبه حاملا له على كاهله
يوم القيامة: فيجازي به, وأين جميع أهوال الدنيا ومضايقها من ساعة من عذاب النار وما فيها من أغلال والأنكال ؟ وفي الحديث الحث على الصبر على ما تجري به الأقدار, وأنه خير للناس في الحال والمآل, فمن صبر فاز ومن تبرم بالأقدار فقدر الله لا يرد, وفات المتبرم أعالي الدرجات وتكفير السيئات
مع عظم البلاء: فمن حل به خلاف ما يهواه الإنسان بالطبع من الشدائد فليفرح بها , لما فينه من التخصيص وإجزال العطاء, فإن لم يكن من أهل مقام الرضا فلا اقل من أهل مقام الصبر
وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم: لأنه لو تركهم وزهرات الدنيا ربما استغرقت فيها قلوبهم: فاشتغلوا بها عن مربوبهم كما وقع ذلك للكفار وأرباب الغفلات , فمن أراد الله إقباله عليه قطع عنه العلائق وأنزل به أنواع البلايا لتقوده إلى الرجوع إلى مولاه في كل ساعة , وأي نعيم يوازي نعيم الشهود , وأي جحيم يساوي الغفلة والبعيد
فمن رضى: بما جري به القدر ولم تبرم ولم يتضجر
فله الرضا: بالاختصاص الإلهي والفيض الرباني والثواب الجزيل والأجر الجميل
ومن سخط: من ذلك وتبرم من تلك المقادير جرى المقدور إذ لا مانع لما أراد سبحانه
فله: أي الساخط
السخط: الانتقام أو إرادته , لما فيه من معارضة الأقدار الإلهية والاعتراض على الأحكام الربانية