قال تعالى:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ
- سورة الأعراف آية 199
وقال تعالى :
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
- سورة فصلت آيات 35،34
وقال تعالى :
وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
- سورة الشورى آية 43
الحلم هو الصفح، والأناة اسم مصدر من تأنى في الأمر أي تمكث ولم يتعجل، والرفق ضد الخرق.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: »إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة« رواه مسلم.
(إن فيك خصلتين يحبهما الله) أي يرضاهما ويثني على فاعلهما ويثيبه
(الحلم) قال المصنف هو العقل، وفي النهاية: الحلم بالكسر الأناة والتثبت في الأمور وذلك من شأن العقلاء
(والأناة) التثبت وترك العجلة. وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك ما جاء في حديث الوفد »أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقر به النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه إلى جانبه ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: تبايعوني على أنفسكم وقومكم، فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل على شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا ومن أبى قاتلناه، قال صلى الله عليه وسلم: صدقت، إن فيك خصلتين يحبهما الله« الحديث، قال القاضي عياض: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل، والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب، ولا يخالف هذا ما جاء في مسند أبي يعلى وغيره أنه لما قال رسول الله للأشج: »إن فيك خصلتين« الحديث،
قال: »يا رسول الله، أكان في أم حدثا؟
قال: بل قديم،
قال: قلت الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله«
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف, وما لا يعطي على ما سواه« رواه مسلم.
(إن الله رفيق يحب الرفق) لأنه يتأتى معه من الأمور ما لا يتأتى مع ضده
(ويعطي على الرفق) في الدنيا من الثناء الحسن الجميل وفي الآخرة من الثواب الجزيل
(ما لا يعطي على العنف) قال في النهاية: هي الشدة والمشقة، وكل ما في الرفق من خير ففي العنف ضده. وقيل أن العنف هو التصعيب والتشديد في الأشياء
(وما لا يعطي على ما سواه) أي على الذي هو سوى الرفق، وهو مع ما قبله إطناب أتى به ليدل على الحض على الرفق.
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا« متفق عليه.
(يسروا ولا تعسروا) اليسر ضد العسر، وذكر في الثانية تأكيدًا وإطنابًا وإلا فالأمر بالشيء نهي عن ضده، أو لأنه لو اقتصر على الأمر بالتيسير لصدق على من أتى به مرة، وبالعسر بعض أوقاته، فلما قال: ولا تعسروا انتقى العسر سائر الأوقات وذلك لقوله تعالى:
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
ولما ورد في الصحيح عند مسلم من أنه لما قيل:
وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ
قال: قد فعلت، ولما في الحديث »بعثت بالحنيفية السمحة السهلة« وفي الصحيح »صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها«
(وبشروا) من البشارة الإخبار بالخير وهي ضد النذارة
(ولا تنفروا) قابل به البشارة مع أن ضدها النذارة لأن القصد من النذارة التنفير عن المنذر عنه، فصرح بالمقصود منها.
عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: »من يحرم الرفق يحرم الخير كله« رواه مسلم.
(من يحرم الرفق) بان لا يوفق له بل يكون فيه العنف والشدة
(يحرم الخير كله) أي جميع الخير الناشئ عن الرفق. وحرمان من حرم الرفق جميع الخير المذكور لما سبق من قوله: »إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف« وذلك أن الرفق به انتظام خير الدارين واتساق أمرهما، وفي العنف ضد ذلك، قال الله تعالى:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ
.
عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: »إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته« رواه مسلم.
(إن الله كتب) أي أوجب وقدر
(الإحسان) إتقان الفعل، أو بمعنى التفضيل والإنعام
(على كل شيء) للشيء إطلاقان: أحدهما ما أمكن وجوده بالإمكان العام فيكون أخص من المعلوم، إذ المستحيل معلوم ولا يطلق عليه بهذا الإطلاق شيء. ثانيهما ما صح أن يعلم ويخبر عنه، فهو أعم العام يطلق على الجوهر والعرض والقديم والحادث والممتنع، ويصح إطلاقه على الله تعالى بالإطلاقين، وهو في الحديث مخصوص بالممكن بدليل العقل. وما من شعبة من شعب الإيمان ولا ركن من أركان الإسلام إلا وقد قرن به إحسان لائق به بدليل عموم كل شيء في الحديث
(فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) القتلة بكسر القاف: هيئة القتل وحالته، والمقصود أي أحسنوا القتلة في كل قتيل حد أو قصاص
(وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) الذبحة بكسر الذال: هيئة الذبح
(وليحد أحدكم شفرته) الشفرة هي السكين العريض، والمعنى أي يجعلها حادة
(وليرح ذبيحته) أي ليوصل إليها الراحة بأن يعجل تمرير الشفرة ولا يسلخ قبل البرودة، ويقطع من الحلقوم لا من القفا، ولا يصرع بعنف ولا يجرها من موضع إلى موضع، وأن يوجهها للقبلة وسمي عند الذبح.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: »ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى« متفق عليه.
(ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين) سواء كان هذان الأمران من الأمور الدينية أو الدنيوية
(قط إلا أخذ) أي تناول أو اختار
(أيسرهما) إرشادًا للأمة ولأن دينه بني على اليسر
يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
(ما لم يكن) أي الأيسر
(إثمًا) أي معصية لأنها سببه، فإن كان الأيسر معصية فلا يخيره الله تعالى بينه وبين مقابله، وإن كان المخير غيره فهو صلى الله عليه وسلم لا يختاره بل يبعد عنه كما قال
(فإن كان) أي الأيسر الذي خيره بعض الناس بينه وبين مقابله
(إثمًا كان أبعد الناس منه) أما المكروه فقال المصنف: إنه كالمعصية لا يختاره صلى الله عليه وسلم ، وإن كان يجب عليه فعل ذلك تشريعًا وبيان أن النهي ليس للتحريم بل للتنزيه
(وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط) يتعلق بحقه من نفس أو مال أو عرض، مع كون المتعرض للنبي صلى الله عليه وسلم قد باء بإثم عظيم، إلا لأن هذا الحق حق آدمي فيسقط بإسقاطه بخلاف حقه سبحانه
(إلا أن تنتهك حرمة الله) وانتهاكها يكون بارتكاب المحرمات، ويحتمل أن يكون بإيذائه صلى الله عليه وسلم بما فيه غضاضة في الدين فذاك انتهاك حرمات الله تعالى
(فينتقم لله تعالى) أي فإن انتهكت حرمة الله فهو ينتقم لله من مرتكب ذلك كما هو شأن أكابر المسلمين. وفي الحديث الأخذ باليسر والرفق في الأمور وترك التكلف والمشاق، وفيه الميل إلى الأخذ يرخص الله تعالى ورخص نبيه صلى الله عليه وسلم ورخص العلماء ما لم يكن ذلك القول خطأ بينًا، وفيه ما كلن عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم والصبر والقيام بالحق والصلابة في الدين، وهذا هو الخلق الحسن؛ فإنه لو ترك كل حق كان ضعفًا وخورًا ومهانة، ولو انتقم لنفسه لم يكن ثم صبر ولا حلم ولا احتمال بل بطشًا وانتقامًا فانتفى عنه الطرفان المذمومان وخير الأمور أوساطها.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل« رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(ألا) أداة استفتاح أتى بها لتنبيه السامع إلى ما بعدها كقوله
(أخبركم) ليستيقظ المخاطب من غمرات الأفكار ويتوجه لتلقي ما يلقى عليه
(بمن يحرم على النار) أي يحرمه الله عليها فيسلب منها قوة إحراقه وإيذائه كنار الخليل عليه السلام
(أو) شك من الراوي: أي أو قال: ألا أخبركم
(بمن تحرم عليه النار) أي لا يستحقها، والأول أبلغ لأنه لو فرض أنه دخلها لم تضره، بخلاف الثاني فإن المحرم عليه دخولها فقط. وقيل هما في المؤدى واحد لأنه إذا انتفى إدخاله لها انتفى مسها له
(تحرم على كل قريب) أي من الناس بحسن ملاطفته لهم
(هين لين) هين: أب من الهون وهو السكينة والوقار والسهولة، وشئ هين لين أي أسهل
(سهل) أي يقضي حوائجهم ويسهل أمورهم.